/ الفَائِدَةُ : (27) /
15/04/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / الموازنة بين الحُجَج / / الحُجَجُ على مراتبٍ وطبقاتٍ / / الحُجِّيَّة تصير ظنّاً بالقياس إِلى ما هو أَقوى حُجَّة / إِنَّ المُحْكَمَ والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجِّيَّة واليقين ذو مراتب ودرجات، والوعي والْمَعْرِفِيَّة بأَصل حُجِّيَّة الحُجَّة من دون أَنْ يُلتفت إِلى سلسلة مراتب الحُجِّيَّة؛ ومراتب إِحْكَام المُحْكَمَات لا يُفيد سداداً وصواباً في الِاستدلال والنتائج؛ لأَنَّ التَّشَبُّثَ والتَّمَسُّك بحُجِّيَّة حُجَّة بتعميم مُطلق؛ من دون مَعْرِفِيَّة درجتها ورتبتها في الحُجِّيَّة يكون من التَّمَسُّك بالظَّنِّ المُتشابه ؛ فإِنَّ الدَّليل وإِنْ كان في نفسه مُحْكَماً وقد يُورِث اليقين، لكنَّه في معارضة ما هو أَيقن منه يكون ظنّاً مُتشابهاً. إِذَنْ: للمُحْكَم واليقين مراتب وطبقات؛ وحينئذٍ لابُدَّ من عَرَضِ المرتبة والطبقة النَّازلة والأَضعف منها علىٰ الصَّاعدة والأَقوىٰ، وإِلَّا فزيغ واِنحراف وضلال. وهذا ما يُوضِّح نُكْتَة اِنحراف وضلال كثير من المذاهب والفِرَق الإِسلاميَّة؛ فإِنَّه نشأ نتيجة عدم التَّفَطُّن إِلى هذه المراتب والطَّبقات وتفاوتها. وهذه ملحمةٌ فكريَّةٌ وعَقَائِدِيَّةٌ ومَعْرِفِيَّةٌ مُهمَّةٌ وخطيرةٌ جِدّاً نبَّهت عليها بيانات الوحي بِشِدَّة، منها: ما صدر عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في معاركه الثلاث ـ الجمل، وصِفِّین، والنهروان ـ . ومن ثَمَّ ظنَّ الكثير خطأً : أَنَّ غاية غايات أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ من حرب الجمل وصفِّين والنهروان هزيمة وإِبادة الطرف ونسفه عسكريّاً ، والحقُّ : أَنَّ الَّذي كان يتوخَّاه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وأنجزه : (فَقْئُ الفتنة). وإِلى هذا أَشارت بياناته صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، منها : أَوَّلاً : بيانه عليه السلام : «... فأَنا فقأتُ عين الفتنة بباطنها وظاهرها ...»(1). ثانياً : بيانه عليه السلام أَيضاً : «... فأَنا فقأتُ عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أَحد غيري، بعد أَنْ ماج غيهبها ، واشتدَّ كلبها...»(2). ثالثاً : بيانه عليه السلام أَيضاً : «أَنا فقأتُ عين الفتنة ، ولولا أَنا ما قوتل أَهل النهروان ولا أَصحاب الجمل ، ولولا أَنِّي أَخشىٰ أَنْ تتَّكلوا فتدعوا العمل لأخبرتكم بالَّذي قضىٰ اللّٰـه علىٰ لسان نبيّكم لـمَنْ قاتلهم ؛ مبصراً بضلالهم ، عارفاً للهدىٰ الَّذي نحن عليه »(3). رابعاً : بيان الإِمام الباقر في تفسيره لبيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِما : «... فقأت عين الفتنة ، وأَقتل أُصول الضلالة ...»(4). ودلالة الجميع واضحة ؛ فإِنَّه عليه السلام ـ مثلاً ـ بيَّن في حرب الجمل: أَنَّ أُمّ المؤمنين والصحابي يُقتلا إِذا زاغا عن جادَّة الدِّين وحارباه ؛ فإِنَّ مُوقعيَّة أُمّ المؤمنين والصحابي لا تعني المقايضة على أَصل الدِّين . وهذه البصيرة العظيمة وبيان المراتب أَعظم من دون قياس من الاِنتصار والحسم العسكري في معركة الجمل وهزيمة عائشة ومَنْ ضلَّ من الصحابة، وأَعظم من دون قياس أَيضاً من الاِنتصار عسكريّاً على معاوية في حرب صفِّين، فإِنَّ سَنَّ وترسيخ الثوابت الإِنسانيَّة، بل الحضاريَّة العوالميَّة أَعظم من الحسم العسكري، فمثلاً: كان المُعتقد السَّائد عند المسلمين دينيّاً وسياسيّاً : أَنَّ القرآن النَّاطق ـ وهو : الإِمام من أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ـ لا يعدل ولا يُعَادِل القرآن الصامت ـ المصحف الشريف ـ ، لكن : أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَثبت في معركة صفِّين بطلان وضحالة هذا الاِعتقاد ؛ وأَنَّ القرآن الصامت لا يقي الفتنة ، ولا يعطي الهداية من دون القرآن النَّاطق . وهذه عِبْرَةٌ وبصيرةٌ سَنَّها وأَنجزها صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في معركة صفِّين، وهي أَعظمُ وأَخطرُ وأَهمُّ ثمرةٌ وفائدةٌ من دون قياس من إِبادة معاوية وجيشه. وعلى هذا قس ما حصل في معركة النهروان ؛ فإِنَّ ما حقَّقه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فيها من إِنجازٍ حضاريٍّ أَعظم من دون قياس من الحسم والاِنتصار العسكري وهزيمة أَصحاب النهروان؛ فإِنَّهم كانوا أَصحاب فتنة فقأها صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وبنىٰ فيها بصيرة حضاريَّة ، عظيمة وخطيرة في المسلمين ، بل في البشريَّة ، بل وفي جملة المخلوقات ؛ فإِنَّ الخوارج(5) كانوا يتمترسون بـ : (سبُّوح قدُّوس) ، وبـ : شِعَار (لا حكم إِلَّا لِلّٰـه) ؛ وهو شِعَار حقّ وعدل ، لكن الزيغ كان يكمن في منهاجهم ، ومعناه : أَنَّ الشِّعَار العادل ينبغي أَن لا يغرَّ العاقل ، فلا بُدَّ من النظر إِلى ما ورائه ، ومن ثَمَّ أَجاب صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عن شعارهم هذا : أَنَّه : «كلمة حقّ أُريد بها باطل...»(6)، ومعناه: أَنَّ كلمة الحقّ قد تكون فتنة ؛ ومن ثَمَّ المصحف الشريف قد يكون فتنة ، وأُمومة المؤمنين قد تكون فتنة ، وصحبة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله قد تكون فتنة. وهذه الفتن لا تُرفع ولا تُفقأ عينها إِلَّا بأَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم. إِذَن: القرآن الصَّامت لا محالة يكون فتنة إِذا تُرك القرآن النَّاطق. ثُمَّ إِنَّه لا يمكن تأسيس هذه البصيرة وما شاكلها في المسلمين ، بل في جملة البشريَّة ، بل في كافَّة المخلوقات وفي طُرِّ العوالم إِلَّا بيد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وسائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؛ فإِنَّه مَنْ كان يجرأ على قتال أُمّ المؤمنين والصحابة كالزبير وطلحة إِذا عادوا أَصل الدِّين غير أَمير المؤمنين وسائر أَهْل الْبَيْتِ عليهم السلام مُؤسِّسُو دين الإِسلام بعد سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله. والخلاصة: أَنَّ العِبْرَةَ الَّتي توخَّاها أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ من حروبه أَعظم من دون قياس من المكاسب السياسيَّة والعسكريَّة. وهذه بصيرة بنيويَّة عَقَائِدِيَّة مَعْرِفِيَّة حضاريَّة ، ونظام الدِّين ، تبقىٰ شاخصة إِلى ما بعد عَالَم الآخرة الأَبديَّة، يجب على المخلوق الاِلتفات إِليها والعضّ عليها بضرسٍ قاطعٍ. /أَسباب حصول الشُّبهة لدى المخلوق/ وَمِنْ كُلِّ ما تقدَّم يتَّضح : أَنَّ سبب حصول الشُّبْهَة والِاشتباه لدىٰ الإِنسان ، بل لدى جملة المخلوقات غالباً : تمسُّكها بما له صُورة الحُجِّيَّة ؛ أَو تمسُّكها بالحُجِّيَّة في قِبَال ما هو أَعظم حُجَّة. والنَّباهة للرشاد، والفطنة للسداد، واليقظة للصَّواب والذكاء والحذاقة تَكْمُن في استقراء مجموع الأَدلَّة والحُجَج والتَّأَمُّل فيها. بيانه: إِنَّ الإِدْرَاكَات العقليَّة ـ سواء كانت تُورِث اليقين أَم لا ـ علىٰ مراتبٍ . والمرتبة الدَّانية من مراتب اليقين تصير ظنّاً بلحاظ مراتبه الصَّاعدة؛ لمحدوديَّة دائرة الأَدْنَىٰ كيفاً وكمّاً (مساحة)، أَو محدوديَّة أَحدهما، كالمدىٰ الكيفي؛ فإِنَّه وإِنْ كان أَلطف وَأَظْرَف دِقَّة وبُعْداً، لكن كاشفيَّته أَيضاً محدودة كيفاً أَو كمّاً ، أَوكيفاً وكمّاً ، بخلاف مراتبه الصَّاعدة بلحاظ ما تحتها. وعليه : وجب ملاحظة دائرة اليقين من جهة البُعْد والمدىٰ الكيفي والكمِّي، والبُعْد الكيفي أَلطف وأَظْرَف دِقَّة وبُعْداً ـ كما تقدَّم ـ ، ويجب عدم الغفلة أَو التغافل عنهما معاً؛ فإِنَّه قد تكون كاشفيَّة اليقين من أَحد الجهتين دون الأُخرىٰ؛ ومن ثَمَّ لا يكشف اليقين عن تمام الحقيقة فيصير ظنّاً واقعاً. وللتقريب لاحظ المثال الحسِّي التَّالي: أَنَّ من يُلاحِظ شيئاً دقيقاً؛ كـ: (ماكنة السَّاعة اليدويَّة)، وقد سُلِّطَت عليه اِضاءة بقوَّة مائة واط فسيجد أَنَّ بعض أَجْزَائه ـ رغم استيعاب الضوء لها لكنَّها لا تُرى بشكلٍ واضح ، فضوء المصباح وإِنْ كان من جهة الكم يُضيء ويستوعب كافَّة أَجزاء الماكنة، لكن قدرته الِاستكشافيَّة من جهة الكيف محدودة، ومن ثَمَّ لا يكشف عن الأَجزاء الأَدق . لكنَّه إِنْ سُلِّط عليها ضوء مصباح ذات واطيَّة عالية ـ كـ: (الأَلف واط) ـ لرُؤيت تلك الأَجزاء ـ الأَدق بشكلٍ واضح وَجَلِي. مثال آخر: عدسات التِّلِسْكُوب أَو والمِجْهَر؛ فإِنَّ كاشفيَّتها تعتمد علىٰ قوَّة المدىٰ الكيفي والكمِّي معاً، فكلَّما اِشْتَدَّت قوَّة المجهر وعدساته من جهة الكيف والكم كُلَّمَا كُشفت عن حقائق وموجودات أَلطف لم يكن بمقدور المجهر الأَضعف اِكتشافها. وعليه: ينبغي للباحث والمُسْتَنْبِط أَنْ لا يُخدع بمُجَرَّد توفُّر درجة من درجات حُجِّيَّة اليقين؛ فإِنَّها ليست بحُجَّةٍ بلحاظ مخالفة ما فوقها من الحُجَجِ. ومن ثَمَّ لَا يصحُّ للباحث والمُسْتَنْبِط التَّمسُّك ـ مثلاً ـ بظاهر المصحف الشَّريف إِذا كانت هناك حُجَّة أَرفع منه وَأَقْوَىٰ ـ كالضَّرورات والمُحْكَمَات، وكذا لا يصحُّ لهما التَّمَسُّك بمُحْكَمَات المصحف الشَّريف، أَو السُّنَّة الشَّريفة، أَو الفِطْرَةِ إِذا كانت تُخالف مُحْكَمَات أَرفع درجة وأَقوىٰ. ويا لهذه النُّكْتَة من نَكْهَةٍ تُستطعم في الفِكْر والذَّوق، ويا له من نظام في منظومة الحُجَج بالغ الأَهميَّة والخطورة والثمرة، دقيق ورقيق، وملحمة عِلْميَّة ومَعْرِفِيَّة خطيرة جِدّاً نَبَّهَت عليها بيانات معارف الوحي، منها: ما قام به أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في معاركه الثَّلاث. وكثير من الفِرَق الإِسلاميَّة وغيرها اِرْتَطَمَت في الِاشتباه نتيجة تمسُّكها بالحُجَّة الأَدنىٰ وتركها للحُجَّة الأَعلىٰ المخالفة لها. كما حصل ذلك للخوارج في معركة صفِّين والنَّهروان حينما تمسَّكُوا بالقرآن الصَّامت ـ المصحف الشَّريف ـ وتركوا القرآن النَّاطق ـ الإِمام عليه السلام ـ المُتَّصل باطنه بساحة القدس الإِلٰهيَّة من دون واسطة؛ فإِنَّه ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) أَرفع حُجَّة وأَقوىٰ من مُحْكَمَات القرآن الصَّامت. وعلىٰ هذا قس حال سائر الفتن الْعَقَائِدِيَّة والْمَعْرِفِيَّة وشُبُهَات الملاحِدَة والمادِّيِّين والإِبَاحِيِّين والحداثويِّين والأَلسنيِّين والهرمنطقيين وأَصحاب البرمجة العصبيَّة ومن جرىٰ علىٰ شاكلتهم؛ فإِنَّهم ينطلقون من موادٍ وحُجَجٍ عِلْمِيَّةِ حقَّةِ في ذاتها، لكنَّها مُخالفة لِـمَا هو أَقوىٰ وأَرفع منها حُجَّة وأَعظم، يُوظِّفُون تلك المواد والحُجَج الأَضعف للإِلحَاد والإِبَاحيَّة والتَّهَتُّك والرَّذيلة والسُّقُوط الأَخلاقي. وعليه: فلا يُعذر مَنْ سقط في هذه الشُّبَه والفِتَن بدعوىٰ عثوره علىٰ دليلٍ عِلْمِيٍّ، أَو ظاهرةٍ عِلْمِيَّةٍ جذبته إِلى هذه الجماعة؛ لأَنَّ كُلَّ دليلٍ عِلْمِيٍّ مخالف للأَقوىٰ حُجَّة يصير شُبْهَةً وظنّاً مُشْتَبَهاً، فلذا ترىٰ الفقهاء يعملون بالدَّليل الحُجَّة، لكن بشرط عدم معارضته للأَقوىٰ حُجَّة، وإِلَّا سقط عن الحُجِّيَّة والِاعتبار وإِنْ كان في نفسه له اِقتضاء وقابليَّة ليكون حُجَّةً شرعاً. ولتوضيح المقام أَكثر نتعرَّض إِلى القضايا الثلاث التَّالية: /القضيَّة الأُوْلَى:/ /المُحْكَم واليقين والحُجَج والظُّنون على طبقات لا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتها/ هناك ملحمةٌ فكريَّةٌ ومَعْرِفِيَّةٌ وعَقَائِدِيَّةٌ لطالما أَكَّدت عليها بيانات الوحي، حاصلها: أَنَّ المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمات واليقين والحُجَج، بل والظُّنون على مراتبٍ ودرجاتٍ، والوعي والمعرفة بأَصل المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون من دون الاِلتفات إِلى سلسلة مراتبها يلزم منه الوقوع في الزَّيغ والضَّلال والِانحراف في مقام الِاستدلال وتحصيل النتائج ؛ لأَنَّ التَّشَبُّث والتَّمسُّك بحُجِّيَّةِ حُجَّةٍ بتعميمٍ مُطلقٍ من دون معرفة رتبتها ودرجتها في الحُجِّيَّة يكون من باب التَّمسُّك بالظَّنِّ المُتشابه، فالدَّليل وإِنْ كان بنفسه مُحْكَماً وقد يُوْرِث اليقين لكنَّه في قِبال ما هو أَحْكَم منه وأَيقن يكون ظنّاً مُتشابهاً. إِذَنْ: المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون على طبقات ومراتب، وحينئذٍ لابُدَّ من عرض الطَّبقة والمرتبة النَّازلة والأَضعف على الطبقة والمرتبة الصَّاعدة والأَقوىٰ، وإِلَّا فاِرْتِطَام بالزيغ والضَّلال والِانحراف. وبالجملة: معرفة أَصل الحُجَج الدِّينيَّة لا تشفع في نجاة المخلوق في سائر العوالم لاسيما الصَّاعدة، بل لا بُدَّ أَنْ يُضَمَّ إِليها معرفة سلسلة مراتبها، بل ويُضَمُّ إِليها معرفة نظامها ومنظومتها، فهناك محاور وحيثيَّات معرفيَّة أَربع: الأُوْلىٰ: معرفة أَصل المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج الدِّينيَّة واليقين والظُّنون، أَي: معرفة أَصل حلقاتها. الثَّانية: معرفة مراتب وتراتب المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون. الثَّالثة: معرفة نظام المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون. الرَّابعة: معرفة منظومة المُحْكَم والإِحْكَام والمُحْكَمَات والحُجَج واليقين والظُّنون. /اِتِّضاح سبب كثير من الأَزَمات الفكريَّة والمعرفيَّة/ ثُمَّ إِنَّ مَنْ يُدقِّق نظره في الأَزمات والْتشرذمات الْفكريَّة والْمَعْرِفِيَّة والْعَقَائِدِيَّة ونشوء الفِرَق واختلافها، بل والخروج عن مسار الوسطيَّة على مرِّ الدُّهور والأَزمان فسيجدها ناشئة من عدم المعرفة بهذه المحاور والحيثيَّات أَو بعضها، ومن ثَمَّ عاتب الباري تعالىٰ بني إِسرائيل في بيان قوله جلَّ شأنه: [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا](7)؛ فإِنَّهم اِدَّعُوا قتل النَّبي عيسىٰ عليه السلام إِعتماداً على الحسِّ والمشاهدة، لكنَّه عَزَّ وَجَلَّ سمَّاهما ظنّاً متشابهاً، وطعن عليهم باتِّباعهم لهمـا؛ فإِنَّ الحسّ والمشاهدة وإِنْ كانا في نفسيهما يُفيدان درجة من العِلْمِ ـ ما لم يُعارَضا بنوع يقين أَرفع منهما ـ ، لكنَّه بعدما عُورِضا بيقينٍ أَرفع منهما وأَرقىٰ حُجِّيَّة أَصبحا ظنّاً متشابهاً لا يصحّ الإِعتماد عليه، فَبَنِي إِسرائيل شاهدوا معاجز صدرت من النَّبيّ عيسىٰ عليه السلام أَورثت لهم يقيناً وحيانيّاً بنبوَّته، وهو فوق اليقين العقلي فضلاً عن اليقين الحسِّي، وقد أَخبرهم عليه السلام : أَنَّه سيبقىٰ حيّاً إِلى ظهور الإِمام الحُجَّة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه ، وهذه معجزة ، لكنَّهم لم يتَّبعوها؛ لتركهم قول صاحب المعجزة، واتَّبعوا الحسّ والمشاهدة؛ فإِنَّهما(8) وإِنْ كانا يورِثان العلم واليقين والحُجِّيَّة أَيضاً لكنَّهما بالقياس إِلى مخالفة ما هو أَقوىٰ حُجَّة من المعاجز واليقين الوحياني صارا ظنّاً متشابهاً. ومنه ينحل ما تَبَلْبَلَ فيه الرَّازي وتحيَّر في تفسير بيان هذه الآية الكريمة؛ فإِنَّه ذكر مراراً : أَنَّ هذه الآية الكريمة تُحَيِّر العقول ؛ فإِنَّه كيف أَبطل الباري عَزَّ وَجَلَّ الحسّ وجعله ظنّاً وشبهة مع أَنَّه من اليقينيَّات ، ويلزم من ذلك بطلان التواتر في الشَّرائع والأَديان ؛ فإِنَّ منشأه الحسّ؟! وهذا من أَشكل المشكلات. فلاحظ عبارته : «واعلم أَنَّه تعالىٰ لَـمَّا حكي عن اليهود أَنَّهم زعموا أَنَّهم قتلوا عيسىٰ عليه السلام فاللّٰـه تعالىٰ كذَّبهم في هذه الدعوىٰ وقال: [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ]، وفي الآية سؤالان: السؤال الأَوَّل: ... والسؤال الثَّاني: أَنَّه إِنْ جاز أَنْ يُقال: أَنَّ الله تعالىٰ يلقي شبه إِنسان علىٰ إِنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة؛ فإِنَّا إِذا رأينا زيداً فلعلَّه ليس بزيد، ولكنَّه أَلقىٰ شبه زيد عليه، وعند ذلك لا يبقىٰ النكاح والطلاق والملك وثوقاً به، وأَيضاً يفضي إِلى القدح في التَّواتر؛ لأَنَّ خبر التَّواتر إِنَّما يُفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إِلى المحسوس، فإِذا جوَّزنا حصول مِثْل هذه الشُّبهة في المحسوسات توجَّه الطَّعن في التَّواتر؛ وذلك يُوجِب القدح في جميع الشَّرائع ... وبالجملة: ففتح هذا الباب يُوجِب الطَّعن في التَّواتر، والطَّعن فيه يُوجِب الطَّعن في نُبوَّة جميع الأَنبياء (عليهم الصَّلاة والسَّلام)، فهذا فرع يُوجِب الطَّعن في الأُصول فكان مردوداً. والجواب: اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع، وذكروا وجوها: الأَوَّل: ... الثَّاني: ... الثَّالث: ... الرَّابع: ... وهذه الوجوه مُتعارضة مُتدافعة، والله أَعلم بحقائق الأُمور»(9). وجوابه قد اِتَّضح؛ فإِنَّ الحسّ والمشاهدة وإِنْ كانا في نفسيهما يفيدان اليقين ، لكنَّهما إِذا عَارَضَا ما هو أَعظم منهما حُجَّة، كالمعجزة ـ وَأَحد معاجز النَّبي عيسىٰ عليه السلام أَنَّه أَخبر قومه بأَنَّه لم يُقتل ويبقى حيّاً ويُصَلِّي خلف الإِمام المهدي عجل الله تعالىٰ فرجه ـ صارا ظنّاً متشابهاً ؛ فبيان الآية الكريمة ليس في صدد إِبطال مُطلق حُجِّيَّة الحسّ ـ كيما يرد ما ذكره الرازي ـ بل في صدد اِبطال حُجِّيَّته في قِبَال معارَضته لِـمَا هو أَعلىٰ منه حُجَّة ويقيناً، فكُلّ قطعٍ ويقينٍ ظنّ متشابه بالقياس إِلى الأَعلى منه رتبة ، ويشمله بيان قوله عزَّ قوله : [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا](10)، وبيان قوله جلَّ قوله : [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ](11). ومن كلِّ هذا يتَّضح : أَنَّ الاطِّلاع على نظام مراتب الحُجَج وتطبيقاتها على مواردها أَمر بالغ الأَهميَّة والثَّمرة . إِذَنْ : معرفة هذه المحاور والحيثيَّات الأَربع ، بل ومعرفة مراتب طبقات غايات الدِّين أَمرٌ بالغ الأَهميَّة والخطورة والثمار في الدِّين والشَّريعة ، ومن ثَمَّ مَنْ يجعل ـ لا سيما أَهل العلم والفضيلة ـ الأَصل فرعاً ، والفرع أَصلاً ـ كما يحدث أَحياناً ـ فهذا ـ واقعاً ـ كارثة علميَّة ومعرفيَّة وفي بصيرة الدِّين ، ومن ثَمَّ روىٰ الفريقان : أَنَّ سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله نادىٰ أَحد الصحابة فلم يجبه ؛ لكونه كان مشتغلاً بصلاته ، ولَـمَّا سأَله صلى الله عليه واله عن سبب عدم إِجابته اعتذر بذلك . ومعناه : أَنَّه قدَّم أَهميَّة الصَّلاة ـ وهي من فروع الدين ـ على أَهميَّة الإِستجابة لنداء سیِّد الأَنبیاء صلى الله عليه واله ، وهو من أُصول الدِّين. وهذا يُدلِّل على مدىٰ نكوس وانحطاط معرفة هذا الصحابي . فانظر: 1ـ ما ورد عن أَبي سعيد بن المُعلَّىٰ ، قال: «كُنتُ أُصلِّي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه واله فلم أُجبه ، فقلتُ : يا رسول الله إِنّي كنت أُصلي ، فقال : «أَلَم يقُل اللّٰـه : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ](12)» (13). 2ـ ما ورد عن أَبي هريرة : «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه واله خرج على أُبيِّ بن كعب ، فقال رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله : «يا أُبيّ» ، وهو يصلِّي ، فالتفت أُبيّ ولم يجبه ، وصلَّىٰ أُبيّ فخفَّف ، ثُمَّ انصرف إِلى رسول الله صلى الله عليه واله ، فقال : السَّلام عليكَ يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله : «وعليك السَّلام، ما منعك يا أُبيّ أَنْ تجيبني إِذ دعوتكَ ؟!»، فقال : يا رسول الله ، إِنِّي كنتُ في الصَّلاة ، قال : «أَفَلَم تجد فيما أُوحي إِلَيَّ : [اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]؟» . قال : بلى ، ولا أَعود إِنْ شاء الله ...»(14). بينما فعل صلى الله عليه واله نفس ذلك الأَمر مع صحابي آخر، فقطع صلاته وأَتاه ، وحينما سأله صلى الله عليه واله عن سبب قطعه لصلاته أَجاب : استجابة لندائكَ يا رسول الله ؛ فإِنَّه الأَصل ، وهو الأَهمُّ والأَعظم والأَخطر . /نُكْتَة ردّ الشَّمس لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ/ ومنه تتَّضح : نُكْتَة وفلسفة إِحدى فضائل ومناقب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وهي : حادثة ردّ الشَّمس إِليه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وهذه معجزة عظيمة حصلت في الكون نتيجة هذه المعرفة وعُلُوّ بصيرته صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ غير المتناهية ؛ شكر الله تعالىٰ له مِمَّا قام به وعلى عظيم معرفته بسيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله ؛ فإِنَّه ترك صلاته ولم يأتِ بها حتَّى عن قعودٍ ، بل لم يتحرَّك ؛ وقاية وحفاظاً على راحة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله ، فقدَّم راحته صلى الله عليه واله على الصَّلاة مع أَنَّه عليه السلام أَعبد العابدين . ومعناه : أَنَّ التقرُّب للّٰـه عَزَّ وَجَلَّ براحة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله أَقرب وأَحَبُّ إِليه جلَّ وتقدَّس من التَّقَرُّب والتحبُّب إِليه بصلاة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مع ما لصلاته صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ من عظمة وأَهميَّة وخطورة . وهذه حادثة مسلَّمة رواها الفريقان . فلاحظ : البيانات النَّاقلة لهذه الحادثة، منها : بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «كنتُ أَنا ورسول الله صلى الله عليه واله قاعدين ... إِذْ وضع رأسه في حجري ثُمَّ خفق حتَّى غطَّ ، وحضرت صلاة العصر، فكرهتُ أَنْ أُحَرِّكَ رأسه عن فخذي ؛ فأَكون قد آذیتُ رسول الله صلى الله عليه واله حتى ذهب الوقت وفاتت [الصَّلاة] فانتبه رسول الله صلى الله عليه واله فقال : يا عَلِيّ ، صلَّيتَ؟ فقلتُ: لا، فقال: ولِمَ ذاك؟ قلتُ: كرهتُ أَنْ أُوذيكَ . قال : فقام واستقبل القبلة ومدَّ يديه كلتيهما وقال : اللَّهُمَّ ردَّ الشَّمس إِلى وقتها حتَّى يُصَلِّي عَلِيّ، فرجعت الشَّمس إلى وقت الصَّلاة حتَّى صلَّيتُ العصر ثُمَّ انقضَّت انقضاض الكوكب»(15). ومن جملة ما تقدَّم يتَّضح : أَوَّلاً : أَنَّ المطلوب في العقائد بعدما كان يقيناً عَقْلِيّاً فلا يفيد معها اليقين الحسِّي ـ كالتواتر الحسِّي ـ ، وهذه قضيَّة مُبَدَّهة في كافَّة العلوم : المنطقيَّة والعَقْلِيَّة، ومن ثَمَّ جَعْلُ اليقين الحسِّي في عَرْضِ وفي مرتبة اليقين العَقْلِيّ جهالة علميَّة في المعرفة، وكفر وإِلحاد علميّ في مراتب الحُجَج والمعرفة، فلذا ذكر الشَّيخ الأَنصاري في نهاية مبحث الإِنسداد في تنبيهات (دور صدور الروايات في العقائد): أَنَّ جملة علماء الأُصول ذكروا: أَنَّ دور الصدور وحُجِّيَّته ليس بُنْيَة أَصليَّة في مقام الإِستنباط واستخلاص النتائج، وإِنَّما إِعداد ومُعِد، والعمدة هو: صحَّة وحُجِّيَّة المتن والمضمون. ثانياً: أَنَّه مَنْ يجعل اليقين ستَّة أَقسام فقد وقع في مسامحة واشتباه خطير، والحقُّ: أَنَّه على مراتب ودرجات لا تُحصىٰ. /اليقين الحسِّي أَنزل مراتب اليقين/ ثُمَّ إِنَّ أَنزل مراتب اليقين هو اليقين الحسِّي؛ لكون عَالَم الحسِّ الغليظ أَنزل عوالم الخلقة، ومحدود بالقياس إِلى ما فوقه من العوالم، وطبيعة قواه في الإِدراك ليست مُسَلَّحة، ومداها ضعيف، بخلاف اليقين العقلي، بل واليقين الوهمي، بل واليقين الخيالي المستفاد من عَالَم المثال؛ والذي رُبَما يُعبَّر عنه بـ: (الحسِّ الباطن). وبالجملة: يقين القوىٰ الباطنة أَقوىٰ بكثير من يقين الحسِّ الظاهر؛ لأَنَّه بعدما كانت باطنة كانت خفيَّة فتكون أَشَدُّ قوَّة وأَوسع مدىٰ من نظام الحسّ الظَّاهر، بل إِدراك قوىٰ الإِدراك الظَّاهر لدىٰ الإِنسان وسائر المخلوقات لا تكون إِلَّا بتوسُّط القوىٰ الباطنة الخفيَّة في ذوات أَنفسها وأَرواحها. ومنه يتَّضح: أَنَّ كُلَّ العلوم ـ كعلم: الفيزياء، والكيمياء، والأَحياء، والطب، والرِّياضات، والهندسة ـ وكُلَّ القواعد والمعادلات في شتَّىٰ العلوم؛ والَّتي تتحكَّم بجملة عوالم الكون ومخلوقاتها أُمورٌ لا تُدرَك بالحسِّ الظَّاهر، بل تُدرك بالحسِّ الباطن والخفي، نعم بالحسِّ الظَّاهر تُدرَك آثارها. ومعناه: أَنَّ العلوم والمعارف أُمورٌ ومخلوقات غيبيَّة غير مرئيَّة، ولا تُدرَك ولا تشاهد بالحسِّ الظَّاهر. ومن كُلِّ ما تقدَّم يتَّضح: أَنَّ عَالَم الحسّ واليقين الحسِّي إِذا كانت هذه مدياته ومستوياته كيف يُمكن به إِثبات حقائق الوحي الإِلٰهيّ، وحقائق بياناته، بعدما كان الوحي الإِلٰهي من العوالم الصَّاعدة. /القضيَّة الثَّانية :/ /بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام للانحرافات المعرفيَّة في معركة الجمل وصفِّين والنهروان/ تقدَّم أَنَّه من الأُمور المهمَّة، بل اللازمة في الاعتقاد بالموقعيَّة الدِّينيَّة: أَنَّ الهداية لا تتم بمجرَّد الاعتقاد بأَصل الحُجِّيَّة والاِصطفاء الإِلٰهيّ مالم يُضم إِليها بقيَّة المحاور والحيثيَّات الأَربع، وإِلَّا اِرتطم المخلوق بالضَّلال والزَّيغ والانحراف، وهذا ما بيَّنه وخطَّه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في معاركه الثلاث ـ الجمل وصفِّين والنهروان ـ؛ فإِنَّها تشترك في شيءٍ، وهو: اِرتطام المعسكر المقابل، بل الأُمَّة بالضَّلالات والِانحرافات الفكريَّة والمعرفيَّة والعقائديَّة، وأَراد الباري جلَّ شأنه معالجتها على يد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؛ فإِنَّه عليه السلام لم يقبل احتجاج معسكر أَهل الشَّام في معركة صفِّين بالمصحف الشَّريف، لكنَّه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ احتجَّ به على معسكر أَهل البصرة في معركة الجمل. والنُّكْتَةُ : أَنَّه عليه السلام أَراد أَنْ يُبيِّن في معركة الجمل: أَنَّ حُجِّيَّة القرآن الكريم فوق احترام وحرمة أَزواج سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله وأَصحابه، وأَراد أَنْ يُبيِّن في معركة صفِّين: أَنَّ حُجِّيَّة الإِمام من أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ـ باعتبار أَنَّه القرآن النَّاطق ـ مُهَيْمِنَة على حُجِّيَّة المصحف الشَّريف ـ وهو القرآن الصَّامت ـ . أَمَّا في معركة النهروان فاراد صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ من خلال بيان قوله : «... فليس مَنْ طَلَبَ الحقّ فأَخطأَه (وهم الخوارج)، كمَن طَلَبَ الباطل فأَدْرَكَه (وهم: معاوية وعمر بن العاص وجماعتهما)»(16) ـ أَنْ يُبَيِّن: مراتب أُخرىٰ للحُجِّيَّة، وهي: مُحكمات وبديهيَّات وضروريَّات الوحي، وكيفيَّة تطبيقاتها على التَّفاصيل، والتطبيقات من الأُمور النَّظريَّة فلا تُقَدَّم على حُجِّيَّة أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَيضاً. فقولهم: «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ»(17) مُحكَم من مُحکمات وبديهيَّات بيانات الوحي، لكنَّهم اِرتطموا بالضَّلال والزَّيغ والِانحراف نتيجة تطبيقهم الخَاطئ والمُضِلّ. وهذا المحذور هو الَّذي أَوقع إِبليس (عليه اللَّعْنَة) في ورطته؛ فإِنَّه لَـمَّـا لم يحفظ أَو يُحافظ على مراتب الحُجَج الإِلٰهيَّة تطاول على خليفة الله وحُجَّته. إِذَنْ: الكفر بالرُّتبة كفر عظيم. وهذا ما يُوضِّح: أَحد التَّعابير الشَّائعة عند أَهل المعرفة والمُتكلِّمين ـ وهو تعبير مُهمّ ودقيق جِدّاً ـ وهو: (حفظ المراتب من الإِيمان). وقس على ضدِّه دفع المراتب وإِنكارها، والخلط والخبط بينها؛ فإِنَّه كُفرٌ خفيٌّ حاجب عن ترقِّي مراتب الإيمان. وهذا أَحد أَسرار معاني وحقائق بيان زيارة عاشوراء: «... وَلَعَنَ الله أُمَّة دفعتكم عن مقامكم، وأَزالتكم عن مراتبكم الَّتي رتَّبكم الله فيها ...»(18)، ومضمون هذا البيان الشَّريف نفس مضمون بیان قوله تبارك اسمه: [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ](19)؛ فإِنَّه برهان وحيانيٌّ دالٌّ على وجوب حفظ المراتب. وعدم التفرقة الوارد في بيان قوله جلَّ قدسه: [لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ](20). ناظر إِلى أَصل: المنظومة والمسيرة والهدف، وهذا ـ كسابقه ـ أَمرٌ ضروريٌّ، ومعناهما: أَنَّه كما أَنَّ وحدة المنظومة أَمرٌ ضروريٌّ كذلك تعدُّد مراتب الحُجَج أَمرٌ ضروريٌّ أَيضاً. /القضيَّة الثَّالثة : / /عدم كفاية الاِعتقاد بحُجِّيَّة أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ من دون معرفة فضلهم/ /تقدُّم حُجِّيَّة ومقامات أَهْل الْبَيْتِ عليهم السلام على سائر الأَنبياء والمُرسلين عليهم السلام/ أَصَرَّ الكثير من علماء الإِماميَّة ـ لدلائل وشواهد وحيانيَّة كثيرة ـ على أَنَّ حُجِّيَّة أَهل البيت الثلاثة عشر معصوماً صلوات اللّٰـه عليهم فضلاً عن حُجِّيَّة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله فوق حُجَج سائر الأَنبياء والمُرسلين، منهم سائر أَنبياء أُولي العزم الأَربعة عليه السلام ومُتَقَدِّمَة ومُهَيْمِنَة عليها. ومعناه: أَنَّه لا يكفي الِاعتقاد بحُجِّيَّة أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ؛ ولا يكون ذلك الِاعتقاد عَاصِماً ومُؤَثِّراً في مباحث معرفيَّة كثيرة؛ ومُؤَثِّراً على خريطة المعارف والعقائد وفقه الفروع والتَّشريع ورؤيتها؛ وعلى مستقبل الأُمور ما لم يُضمّ إِليه معرفة فضلهم ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ)، وَمِنْ ثَمَّ ورد في جملة من بياناتهم ( صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) المُستفيضة، الواردة في تفسير بيان قوله عزَّ من قائل: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ](21): أَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَخذ الميثاق على سائر الأَنبياء والرُّسل عليهم السلام في العوالم السَّابقة ـ كعالم: الذَّرّ والميثاق والأَظِلَّة ـ : إِنِّي ربّكم ومُحمَّد رسولي وعَلِيّ أَمير المؤمنين، بل أَخذها على جملة المخلوقات. فلاحظ: تلك البيانات، منها: 1ـ بیان سيِّد الأَنبياء مخاطباً أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِما وعلى آلهما: «يا عَلِيّ، ما بَعَثَ اللّٰـه نبيّاً إِلَّا وقد دعاه إِلى ولايتكَ طائعاً أَو كارهاً»(22). 2ـ بيانه صلى الله عليه واله أَيضاً: «ما تكاملت النُّبُوَّة لنبيٍّ في الأَظلَّة حتَّى عُرِضَت عليه ولايتي وولاية أَهل بيتي، ومُثِّلوا له فأَقرُّوا بطاعتهم وولايتهم»(23). 3ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عرض ولايتي على أَهل السَّماوات وعلى أَهل الأَرض؛ أَقَرَّ بها مَنْ أَقَرّ، وَأَنكرها مَنْ أَنكر، أَنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتَّى أَقَرَّ بها»(24). 4ـ بيان الإِمام الباقر صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «إِنَّ الله تبارك وتعالىٰ أَخذ ميثاق النَّبيِّين على ولاية عَلِيّ، وَأَخذ عهد النَّبيِّين بولاية عَلِيّ عليه السلام »(25). 5ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً: «إِنَّ الله تبارك وتعالىٰ أَخذ الميثاق على أُولي العزم أَنِّي ربّكم، ومُحمَّد رسولي، وعَلِيّ أَمير المؤمنين عليه السلام وأَوصياؤه من بعده ولاة أَمري وخزَّان علمي، وَأَنَّ المهدي أنتصر به لديني»(26). 6ـ بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «ما مِنْ نَبِيٍّ نُبِّئ، ولا من رسول أُرسل إِلَّا بولايتنا وتفضيلنا على مَنْ سوانا»(27). 7ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً: «إِنَّ الله يقول: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا](28)، قال: هي ولاية عَلِيّ بن أَبي طالب عليه السلام »(29). 8ـ بيان الإِمام الكاظم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، قال : «وولاية عَلِيّ مكتوبة في جميع صحف الأَنبياء، ولن يبعث الله نبيّاً إِلَّا بنبوَّة محمَّد وولاية وصيّه عَلِيّ صلوات الله عليهما»(30). ودلالة الجميع واضحة. ومعناها: أَنَّ إِمامة أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ شاملة لجملة الجن والإِنس، منهم : أَنبياء أُولي العزم الأَربعة فضلاً عن سائر الأنبياء والمرسلين عليه السلام، بل شاملة لجملة العوالم ومخلوقاتها غير المتناهية؛ من بداية الخلقة والوجود إِلى ما لا نهاية له. وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بحار الأَنوار، 26: 152ـ 153/ح40. المحتضر: 87. (2) بحار الأَنوار، 41: 348 ـ 349/ح61. نهج البلاغة، 1: 199 ـ 201. (3) بحار الأَنوار، 33: 356/ح588. (4) المصدر نفسه، 39: 348ـ 349/ح20. مناقب آل أَبي طالب، 1: 512 ـ 514. (5) كانت بدايات نشأت الخوارج في زمان سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله وفي يوم حُنَيْن، حينما قسَّم صلى الله عليه واله الغنائم، فاعترض عليه أَحَد الصحابة بقوله: «اعدل يا مُحمَّد » ، فلاحظ: ماورد متواتراً عند المسلمين: «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه واله بينا هو يُقسِّم قسماً إِذ جاءه رَجُلٌ من بني تميم يُدَّعَىٰ ذا الخويصرة، فقال: اِعْدِل يا مُحمَّد؛ فقال صلى الله عليه واله : قد عدلت، فقال له ثانية: اِعْدِل يا مُحمَّد؛ فإِنَّك لم، فقال صلى الله عليه واله : ويلك، وَمَنْ يَعْدِل إِذا لم أَعْدِل ... فسيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدِّين كما يمرق السَّهم من الرَّميَّة ... يخرجون علىٰ خيرِ فرقةٍ من النَّاس، يحقر صلاتكم في جنب صلاتهم، وصومكم عند صومهم، يقرأون القرآن لا يُجاوز تراقيهم ...». بحار الأَنوار، 33: 338ـ 339/ ح584. فَاِعْتِرَاض هذا الصَّحَابي علىٰ سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله كان ببديهيَّة عظيمة، وهي بديهيَّة العدل، والكلام في تطبيقها؛ فإِنَّه طبَّقها علىٰ أَعدل جملة المخلوقات وفي كافَّة عوالمها، وقَدَّم حُجِّيَّتها علىٰ حُجِّيَّته صلى الله عليه واله . وفِتْنَةُ الخوارج كانت أَعظم من فِتْنَةِ الجمل وصفِّين؛ لأَنَّهم لا يقرِّون بنهج السَّقيفة، ولا بالنَّهج الأُموي، وليسوا علىٰ وفاق مع مسالك ومناهج المذاهب الأَربعة ومن جرىٰ علىٰ شاكلتهم كالسَّلَفيَّة والوهَّابيَّة، وشعار نهجهم: التَّمَسُّك بمُحْكَمَات وبديهيَّات وضروريات الوحيّ، وهي أَعظم حُجَّة من سائر حُجَج القرآن الكريم والسُّنَّة الشَّريفة؛ فلم يطالبوا بدم عثمان، ولم يتمسَّكُوا بحُجِّيَّة المصحف الشَّريف، بل تمسَّكوا بما هو أَعظم، لكنَّهم وقعوا في الزَّيغ والضَّلال والاِنحراف نتيجة تطبيق المُحْكَمَات والبديهيَّات علىٰ التَّفاصيل. ومن ثَمَّ وُصِفُوا في بيانات الوحي بأَنَّهم: (كلاب أَهل النَّار)؛ [بحار الأَنوار، 33: 326/ح571]؛ لأَنَّهم بلا هداية ولا نور، وليست لديهم رؤية لمنظومة الحُجَج، وعدم اِرْتِسَامها عندهم بالشَّكْلِ الصَّحيح. وهذه من المطالب الصَّعبة والخطيرة والمُهمَّة جِدّاً. (6) بحار الأَنوار، 33: 338/ح583. (7) النساء: 157. (8) مرجع الضمير في (فإِنَّهما) و(لكنَّهما): الحسّ والمُشاهدة. (9) التفسير الكبير، 11/النساء: 157/99ـ100. (10) يونس: 36. (11) آل عمران: 7. (12) الأَنفال: 24. (13) البخاري، 4: 1623/ح4204. (14) المصدر نفسه: 1738/ح4426. (15) بحار الأَنوار، 41: 182ـ183/ح19. فروع الكافي، 4: 561ـ 562. (16) بحار الأَنوار، 33: 434/ح642. (17) الأَنعام: 57. يوسف: 40. (18) بحار الأَنوار، 98: 291. مصباح الطوسي: 538 ـ 542. (19) البقرة: 153. (20) البقرة: 285. (21) آل عمران: 81 ـ 82. (22) بصائر الدرجات، 1: 160/ح295ـ2. الاختصاص: 343. (23) بصائر الدرجات،1: 161/ح300ـ7. (24) بصائر الدرجات،1: 165/ح 312 ـ1. (25) المصدر نفسه: 160/ح 297 ـ4. (26) المصدر نفسه: 223 ـ 224/ح416 ـ 14. الكافي، 2: 8/ح1. (27) بصائر الدرجات، 1: 163/ ح307ـ5. (28) الأَحزاب: 72. (29) بصائر الدرجات، 1: 165/ح313 ـ 2. الكافي، 1: 412/ ح2. تأويل الآيات، 2: 270/ح40. (30) بصائر الدرجات، 1: 159/ ح294 ـ 1. الكافي، 1: 437/ ح6